لماذا تحدث الانهيارات الاقتصادية؟ ولماذا تتكرر الأزمات الاقتصادية؟ ماهو دور الضرائب والزكاة في الاقتصاد؟ أسئلة متشعبة ومتداخلة نحاول أن نجد لها إجابات (تصور اقتصادي) في موضوعنا اليوم.
في اعتقادي أن أول انهيار اقتصادي حدث في تاريخ البشرية (المعروف) أيام النبي يوسف عليه السلام، بسبب الجفاف (سبع عجاف) تضاعف الطلب والإنتاج كاد يكون معدوما، وكلنا نعرف القصة والحلم الذي حلم به ملك مصر، والاستعدادات التي استمرت سبع سنوات من الإنتاج، لتغطية سنوات الجفاف.
الكساد الكبير الذي حدث في أمريكا تحدثت عنه سابقا في العديد من المقالات، وهو باختصار شديد، تضاعفت الأسعار، وحدث اختلال في توازن السوق بين العرض والطلب. السوق المتوازن هو الذي يعرض فيه المنتج سلعته بسعر التوازن ويجد مشتري، وكذلك المشتري يجد السلعة بسعر التوازن.
السؤال الذي يدور في الأذهان…لماذا يختل توازن السوق؟ الجواب كبير وأكبر من أن نستوعبه، فالاختلال يحدث بسبب ظروف مناخية، أو حروب، أو بسبب إدارة الاقتصاد.. الأسباب كثيرة. منها ما يكون خارجا عن الإرادة ومنها بسبب السياسات الخاطئة، لا يدرك الإنسان الخطأ إلا بعد فوات الأوان.
إذا تتبعنا عمليات السوق، نجد أن التاجر يبيع السلعة، والمستهلك يقدم للتجار المال مقابل السلعة. وعبر الزمن والسنوات تتكرر عملية البيع لدى التجار، وأيضا تزداد الكثافة السكانية ويزداد البيع وتتراكم الأرباح وتتكون ثروة للتاجر.
طبعا يحق لأي تاجر أن يكون ثروة، لكن هنا يحدث اختلاف في الدخول وفي نمط الاستهلاك بين التجار والمستهلك.. كيف؟
دخل أي إنسان في الدنيا يتحول إلى استهلاك وادخار (الادخار عندما يصل لحجم معين يتحول للاستثمار).
الآن ندخل في متاهات الاقتصاد، وسأحاول أن أبسط الفكرة. بعد أن أصبح التاجر (المنتج) لديه ثروة، يختلف نمط سلوكه الاقتصادي عن ذوي الدخل المحدود (المستهلك) كيف؟
التاجر يستهلك من دخله ربما أقل من واحد بالمئة، وذوي الدخل المحدود (المستهلك) يستهلك أغلب دخله.
الأثرياء نسبتهم في العالم لا تتجاوز خمسة بالمئة، وباقي الشعوب خمسا وتسعين بالمئة. دخل محدود وفقير، وهذا ما يطلق عليه في الاقتصاد سوء توزيع الثروة.
فهذه الثروة التي تكونت للأثرياء صنعها لهم الفقراء الذين أنفقوا جميع دخلهم، وتزداد الفوارق الطبقية كلما انخفضت نسبة استهلاك الأثرياء، وزاد استهلاك الفقراء.
الشخص الغني ربما يستهلك في الشهر مليونا، ودخله السنوي مليار، فتكون نسبة استهلاكه صفر فاصلة صفر اثنا عشر بالمئة (0.012٪)
في المقابل، الفقير يستهلك في الشهر ألفين ودخله السنوي ستة وثلاثين ألف. تكون نسبة استهلاكه ثمانين بالمئة.
المؤكد أن إجمالي إنفاق الفقراء يفوق إجمالي إنفاق الأغنياء، وهذه إحدى ركائز صناعة الثراء.
عالم الاقتصاد كينز الذي عالج الكساد العظيم يقول:
(الادخار مجرد عادة بورجوازية، والرأسمالية تقريبا دخلت مرحلة الانهيار، والإنفاق عديم النفع في الغالب، لأنه قائم على عدم المساواة في توزيع الثروة)
طبعا الفكرة تتمحور حول ضرورة دوران السيولة في الاقتصاد.
السؤال هنا ماذا سيحدث عندما تتراكم الثروة في أيدي الأغنياء؟
هنا سيحدث الاختلال في الدورة الاقتصادية وتوازن الاقتصاد.. كيف؟
سبق وقلنا بأن الفقراء هم من يصنعون ثروة الأغنياء، فإذا ازداد الفقراء فقرا، لن يجد الأغنياء من يشتري سلعهم، فتحدث أزمة في الاقتصاد.. كيف؟
الأزمة تتشكل في بداية توقف عجلة الاقتصاد، فالأثرياء عندما يضعف إقبال الفقراء على سلعهم، تنخفض أرباحهم، فتزداد لديهم المخاوف، فيحجمون عن الاستثمار ويخفضون من الإنفاق. فيصبح الاقتصاد بين المطرقة والسندان، فالفقراء ليس لديهم استطاعة للإنفاق، والأغنياء ينتظرون أن تتحسن الأحوال.
هنا تتدخل السياسات الاقتصادية الخاطئة، من خلال تحفيز الفقراء على شراء سلع الأغنياء من خلال القروض (تحميلهم ديون)
ويتم تحفيز الطلب وترتفع الأسعار وتتضاعف لتحقيق الأرباح، وتصل السلع إلى أسعار لا تتناسب مع المنفعة التي تقدمها، فتتصلب عجلة الاقتصاد ويترقب الناس انهيار السوق.
الدراما التي تحدث بعد توقف عجلة الاقتصاد، هي تسريح العاملين، فتزداد البطالة، وإفلاس الشركات وحدوث أزمة ثقة في البنوك، ينخفض الإنتاج وتصبح الأموال الموجودة في الاقتصاد تطارد سلع وخدمات محدودة فترتفع الأسعار، ويدخل الاقتصاد في الركود التضخمي.
إن تراكم الثروة في أيدي الأغنياء يضعف الطبقة المتوسطة، هي الطبقة التي تدعم الطلب الكلي (الاستهلاك) وبدون وجود طلب كلي لا قيمة للمال ولا الاقتصاد، ويحل الركود ويصبح الاقتصاد يعاني من الركود والبطالة، والمجتمع تنحدر فيه القيم والأخلاق، فمع انتشار الفقر ينتشر كل شيء تعيس.
الله عزوجل يقول (كي لا يكون دولة بين الأغنياء) وهناك مشكلة اقتصادية تحدث في جميع دول العالم، وهي أن الأغنياء يقترضون من البنوك، من باب توفير سيولة أكبر، وغالبا من أجل المخاطر ومضاعفة قيمة الاستثمار، فهم تداولوا المال بينهم، واقترضوا من البنوك ودائع الفقراء.
هنا يأتي الدور الاقتصادي للزكاة في معالجة المشكلة، بتفتيت ثروات الأغنياء.
لو كان أحدهم يملك مئات المليارات ولا يستثمرها، فالزكاة خلال أربعين سنة سوف تجعل تلك المليارات أقل من النصاب الذي تجب فيه الزكاة. جربوا في برنامج الاكسل، واخصموا اثنين فاصلة خمسة بالمئة أربعين مرة وراقبوا تفتت تلك المبالغ.
سيأتي أحدهم ويقول (ما نقص مال من صدقة..) هذا الحديث يدعم ماذكرته ولا يوجد تناقض.
لأن أموال الزكاة تصرف على الأصناف التي لا تشارك في العملية الاقتصادية، وتجعلهم أكثر فاعلية.
وفي نفس الوقت تحفز أصحاب النصاب (المال) على الاستثمار والمشاركة في العملية الاقتصادية.
أخذ الزكاة على الأموال التجارية، والأموال الخاصة، يحفز دوران عجلة الاقتصاد وإعادة التوازن بين العرض والطلب، ويعيد توزيع الثروة بين أفراد المجتمع.
ربما هناك خلاف فقهي في موضوع أخذ الزكاة على الأموال الخاصة، ولكن هنا نناقش أمورا اقتصادية ولا دخل لنا في الأمور الفقهية.
هناك (تشابه) كبير بين الزكاة والضرائب من حيث تفتيت الثروات، وإعادة ضخ الأموال في الاقتصاد.
لكن الضرائب تذهب لمصاريف الدولة، والزكاة تذهب للأصناف الثمانية، والزكاة تأثيرها على النشاط الاقتصادي تحفيزي، من خلال تحفيز الطلب الكلي بمشاركة الأصناف الثمانية.
الضرائب تأثيرها سلبي على الطلب الكلي، لأنها تتسبب في رفع الأسعار، وإدخال الاقتصاد في مشاكل التضخم (طبعا هذا يعتمد على نوعية الضريبة وطريقة تطبيقها).
كذلك الضرائب لا تحفز الطلب الكلي، ربما في بعض الدول يدفع شيء من الضرائب للفقراء ولكن ليس كل الضرائب.
الزكاة تأخذ من الأرباح أو رأس المال العامل ورأس المال المستثمر (الأصل) بافتراض ذلك – لا أتحدث عن التطبيق الخطأ-
الضرائب عمياء لا تفرق بين الغني والفقير، خاصة عندما تفرض على المبيعات، وعندما تأخذ على الدخل تصل نسبا عالية ولا تحفز المستثمر على زيادة النشاط الاقتصادي.
المقام لا يتسع للمقارنة الاقتصادية بين أمر وضع بحكمة إلهية، وأمر وضع باجتهاد البشر.
ولكن هناك أمر اقتصادي عجيب في الزكاة دائما أفكر فيه، هو تطابق نسبة التضخم المقبول اثنان فاصلة خمسة بالمئة عند علماء الاقتصاد، مع نسبة الزكاة الشرعية، هل هي صدفة؟ لا أعتقد.
دور الزكاة والضرائب هو أخذ المال من أفراد المجتمع، وإعادة ضخها في الاقتصاد لتحريك عجلة الاقتصاد، الزكاة تعفي الفقير وتركز على تحفيز الطلب الكلي ومشاركة جميع أفراد المجتمع، الضرائب لا تعفي الفقير ولا تركز على تحفيز الطلب، ولا تهتم بمشاركة جميع أفراد المجتمع.
أخيرا:
الزكاة نظام اقتصادي يقي الاقتصاد العالمي من عثرات الانهيار، ويجعل النشاط الاقتصادي في شباب متجدد.
لدينا نظام اقتصادي متقن ومتكامل، لم نحسن دراسته بشكل اقتصادي، ولم نوفق بعد بأن نقدمه للعالم لمعالجة الانهيارات الاقتصادية المتكررة.