عجائب بناء ستونهنج ملخص

عجائب بناء ستونهنج

بقلم ماجد الماجد

بناء هندسي فذ احتار علماء الآثار بشأنه، بني قبل آلاف الأعوام من الآن، يحاذي شروق الشمس والقمر ويمكن من خلاله التنبؤ بالكسوف والخسوف، فيما أحجاره التي يصل وزن أحدها لأكثر من 25 طناً جلبت من على بعد مئات الكيلومترات، هل هو مرصد فضائي؟ وكيف بني ومن هم بناته؟

دأبت الحضارات على ترك ما يخلد ذكراها؛ فرأينا البنايات العجيبة هنا وهناك، لكن مع ستونهنج أنت أمام شيء مختلف تماماً، أمام أحجار ضخمة جداً متراصة هندسياً بشكل عجائبي دون أي كتابات تدل على ماهيتها، ما يزيد الأمر تعقيداً للباحثين هو أنها تقع في مكان نائي، فلا أثر حولها لأي مدن قديمة.

يتكون هذا المعلم الأثري الشهير من 83 من الأحجار ضخمة الحجم المنتظمة في أشكال دائرية متتالية، أكبرها يصل طوله إلى تسعة أمتار ويزن أكثر من 25 طناً، فيما تنتظم بالداخل عشرات الأحجار الزرقاء الأقل طولاً ووزناً، العجب كل العجب في كيفية انتظامها في شكلها هذا دون أي أدوات حديثة.

حين يغيب العلم تحضر الخرافة، فها هو المؤرخ جيفري مونماوث الذي عاش في القرون الوسطى ينسب بناء ستونهنج  إلى ميرلين ساحر بلاط الملك آرثر، والذي بناها في ايرلندا إحياءً لأحد انتصاراتهم على الأنجلوساكسونيين؛ قبل أن يتم نقل هذا النصب عبر البحر إلى مكانه الحالي في سهل ساليسبري غرب لندن.

الملك آرثر في التاريخ البريطاني بمثابة رمز للسكان الأصليين في مواجهة الغزاة الأنجلوساكسونيين الذين غزوا البلاد في القرن الخامس الميلادي، ويرجح كثير من المؤرخين أنه مجرد أسطورة خيالية، ومن ثم كانت رواية جيفري لا تعدو افتراضاً يبرر به عجائبية هذا الأثر ومحاولة لشفاء تساؤلات الناس.

أمام هذه الأطلال الفريدة وقف الملك جيمس الأول منبهراً، كان يحتاج لإجابة شافية عن ماهيتها ومن شيدها، لذلك كلف مهندسه المعماري إينيجو جونز بالبحث عن إجابة، من فوره همّ جونز باحثاً ومستقصياً للأمر، ومع عدم وجود كتابات تؤرخ لهذا الأثر لم يجد أمامه سوى الافتراض.

لم يكن السكان البدائيين للبلاد على تلك المقدرة الفذة من المعمار والهندسة، بل كانوا مجرد صيادين رحّل، لذلك لم يكن من جونز إلا أن أسند تشييد ستونهنج إلى إحدى الحضارات الأخرى المجاورة، هذا البناء العجائبي لا يستطيع الإتيان به سوى الرومان، هكذا اعتقد وأعلن اعتقاده للملأ.

على نفس نمط افتراض إينيجو جونز من أن حضارة أخرى هي من شيدت هذا البناء، سار مؤرخون وعلماء آثار آخرين، فنسبوه إلى الأنجلوساكسونيين، فيما آخرين نسبوا البناء إلى السلتيين الذين سكنوا أيرلندا واسكتلندا منذ القرن الرابع قبل الميلاد حتى غزو الرومان لتلك البلاد.

بناء على ذلك فإن عمر ستونهنج يصل إلى 1500 عام، لكن كل هذا لا يعدو افتراضات، كان الموقف حرجاً ويحتاج لدليل دقيق ينحي كل هذه الأقاويل جانباً ويصعد ممثلاً التاريخ الأكثر ترجيحاً لهذا الأثر الفذ، وهو ما حدث عام 1953، حينما ذهب عالم الآثار ريتشارد أتكينسون إلى الموقع لالتقاط بعض الصور.

كانت مهمة أتكينسون تتعلق بإجراء مسحات لرسوم جرافيتي تعود للقرن السابع عشر الميلادي، لم تكن أجواء الظهيرة مثالية للتصوير، انتظر حتى حدث تبايناً بين الظل والشمس ومن ثم حانت لحظته، مع شروعه في التقاط الصور لاحظ وجود نقوش أخرى تختبئ خلف الجرافيتي، ما هذه النقوش؟!

تبدو وكأنها آتية من عصور سحيقة القدم، نقش على هيئة خنجر وبجواره أربعة فؤوس، نوع الفؤوس هي نفسها المستخدمة في إنجلترا قديماً، أما الخنجر فهو ذو هيئة غير معتادة لم يصادف مثلها من قبل في شمال أوروبا، بعد البحث تطابق الخنجر مع تلك المستخدمة قديماً في حضارات اليونان.

بهذا الخنجر وجد علماء الآثار مسوغاً لنسبة ستونهنج إلى الحضارة اليونانية، لاقى هذا الرأي ترحيباً خصوصاً مع الدليل المساق عليه، لكن وسط كل هذا، جاءت طريقة التأريخ بالكربون التي كانت جديدة حينذاك لتحسم الجدل، وتقلب كل شيء رأساً على عقب، حيث حددت عمر ستونهنج بأكثر من 5 آلاف عام!

كانت مفاجأة مدوية، فجرت تساؤلات أكثر حول كيفية قيام سكان إنجلترا القدماء الذين ينسبون لما قبل التاريخ لكمّ البدائية التي كانوا عليها، كيف قاموا ببناء هذا الأثر العجيب بأدواتهم البسيطة، وزادت التساؤلات حدة حين عُرِف أن هذه الحجارة جلبت من عدة مواقع جنوب غرب ويلز تقع على بعد 225 كم.

المفاجأة الأكثر غرابة كانت عام 2019؛ حيث اكتشف علماء الآثار دائرة حجرية فارغة بويلز تعرف باسم “واون ماون” وتتطابق حفائرها مع أحجار ستونهنج، اكتشفت تلك الدائرة بجوار الموقع الأصلي الذي جلبت منه الأحجار، ما يعني أن ستونهنج بني في ويلز، قبل أن يفكك وينقل إلى موقعه الحالي.

لكن تفجر سؤال آخر أشد وطأ؛ كيف استطاع سكان سهل ساليسبري نقل تلك الأحجار عظيمة الوزن مسافة تتجاوز 225 كم²؟ ولماذا نقلت من الأساس؟ أثيرت كثير من الافتراضات، منها ذلك الافتراض الذي يتحدث عن الأنهار الجليدية تكفلت بنقلها طبيعياً، حيث تطفو تلك الأنهار بما تحمله كل هذه المسافة.

لكن هذا الافتراض ضعفه كثيرون، كون المناطق المحيطة بـ ساليسبري لم يعثر فيها على أي حجارة أخرى متناثرة من هذا النوع، هناك رأي آخر يتحدث عن نقل الحجارة بحراً عبر زوارق مجمعة من خلال البحر الأيرلندي، وهذا الرأي مقبول أكثر لدى علماء الآثار.

رأي يوضح ما كان عليه هؤلاء القدماء من تطور في أساليب النقل والبناء والفلك وربما غيرهم، أما لماذا كان نقل هذه الحجارة رغم تواجد غيرها في مواضع أقرب، فلربما لاعتقادهم أنها حجارة مقدسة أو سحرية أو ذات وصل بالفلك أو غيره مما كانوا يهتمون به.

ما أثار العجب أكثر بالنسبة لـ ستونهنج هو ما أشار إليه الفلكيون الذين درسوا الموقعين القديم والحديث للبناء، حيث وجدوا البناء في موقعيه يتحاذى مع مواضع شروق الشمس وغروبها وكذلك ظهور القمر واختفائه، ليس هذا فحسب؛ بل هناك مجموعة من الفتحات داخل البناء صممت للتنبؤ بالخسوف والكسوف!

نحن على ما يبدو أمام أول مرصد فلكي في التاريخ، صمم قبل أكثر من 5000 آلاف عام، أو أننا أمام معبد تقام فيه طقوس دينية خاصة لسكان هذه المنطقة، وسواء كان هذا البناء مرصدًا أو معبداً فهو يدلل على القدرات الخارقة التي كان عليها مشيدوه، وكذلك يدلّ على معرفتهم بالسماء وتفاصيلها.

يلاحظ أن ما تبقى من البناء إلى الآن لا يعدو مجرد أطلال، فالبناء على هيئته الأصلية قبل آلاف السنين، كان 15 ضعفاً لما عليه اليوم من حيث أعداد الحجارة المكونة له، وكذا من حيث اكتماله، لكن السؤال الذي لا يزال مطروحاً من قام ببناء هذا البناء الخالدةِ أطلاله حتى اليوم؟

شاركونا توقعاتكم.

Unable to load Tweets

أخر الإصدارات